أصبحت تراه مرتين في اليوم، صباحا قبل خروجه إلى عمله و مساءا بعد عودته، صارت رؤيته تماما كمسكن الألم، يؤخذ مرتين فقط، مرة في الصباح ليدوم مفعوله طوال النهار و مرة في المساء ليدوم مفعوله طوال الليل.
تترك باب غرفتها مفتوحا فقط لتراه صدفة و هو متجه إلى غرفته، فيلقي عليها الـتحية الإجبارية، نفس الكلمات، ".... مرحبا أمي ...كيف حالك اليوم ؟ و فقط، و كأن عقله برمج على هذه الجملة المقتضبة.
قبـل سنتين من اليوم كانت تنتظره في غرفـة الجلوس، و ما إن يدخـل حتى تهلل في وجهـه تسأله عن يومه كيف أمضاه، فتسرق منه بعض اللحظات قبل أن يدخل غرفته ويغـلق البـاب على نفـسه ليغوص في عالم النت و الدردشة و المنتديات، أما الآن لم يعد مسموحا لها بمغادرة الغرفة، فصلاحية الإقامة خارج حدودها قد انتهت، منذ أن سحبت منها بطاقة الامتياز........ الصحة.
يدخل غرفته، و يغلق الباب خلفه، يتجه نحو المرآة، يعدل من هندمه، يضع القليل من لمعة الشعر على رأسه، يمشطه على الموضة ثـم يشغـل جهاز الحاسوب، و تلك العدسة الصغير، التي تعكس صورته الوسيمة على الطرف الآخر، كما تعكس الصنارة روعة الطعم، فيستقطب أكثر الفرائس الصعبة المنال، يضع السماعة على أذنيه، فينقطع عن العالم الذي أوجده، ليتصل بعالم ضيعه.
بعد أربع ساعات من الدردشة من خلف زجاج بارد، تدق الباب شقيـقــته الوحيدة عدة مرات، فلا يجيبها، أذناه مشغولتان بسماع كلام معسول من فتيات ضائعات في كلمات الحب التافهة تفاهة أحلامهن العقيمة، فتفتح الباب و تتجه نحوه، تضع يدها على كتفه، يلتفت إليها متفاجئا: ماذا تريدين ؟
- العشاء جاهز و أنا و أمي ننتظرك.
- لا أحس بالجوع، سأتناول عشائي فيما بعد.
- و لكنك لم تجلس معنا على مائدة الأكل منذ أسبوعان.
- و إن .... هل أنا فاتح الشهية.
- يكفي أنك تتناول غذاءك خارج البيت بحكم عملك ... أرجوك أخي.
- و لكني لا أشعر بالجوع، تناولت بيتزا أنا و أصدقائي قبل عودتي للمنزل.
تخرج أخته مستاءة، كعابر سبيل رُدت يده، تتجه إلى مائدة الطعام الموضوعة في غرفة نوم والدتها بجانب السرير، تلك الوالدة التي أفنت زهرة شبابها في تربيتهما بعد وفاة الزوج، فاجتمع الزمن و المرض تحت لواء واحد، ينسجان لها كفـنا على مهل، فلم تعد قادرة على الجلوس في أي مكان سوى سريرها.
تبتسم لها ابتسامة باهتة : لا يشعر بالجوع يا أمي، لقد تناول بيتزا مع أصدقاءه في الخارج، تعلمين جيدا شباب اليوم.
تتقابـلان على ذلك الطعـام، تأكلان بصمت رهيب، تحاول الفـتـاة بين الفينة و الأخرى سحب والدتها للكلام، فتجيبها بكلمة أو اثنتان ثم تسكت عنها، صمت رهيب تتخلله ضربات الملعقتين البطيئتين على صحن من الفخار الفاخر،
مرت أسابيع عدة، و نفس الأحداث تـتكرر كل يوم، كمسلسل حلقاته فارغة.
و أصبحـت الآن تــراه كـشبح يمر أمامها، ضَعُف بصرها، ضعفت دقات قلبها، ضعف رجــاءها من الحياة، و لكن أملها في رؤيته بقربها تتحسس أنفاسه على خديها لم يضعف، ما عادت تميز الألوان التي يرتديها، حتى ملامحه بدأت شيئا فشيئ تمـحى من ذاكرتها، إلا ملامحه القديمة التي طبعت في ذاكرتها منذ عامين.
اليوم نهض مبكرا، اغتسل، و لبس أجمل ما عنده، و رش بعضا من عطره الفرنسي الباهظ الثمن، اليوم هو أسعد يوم في حياته، سيقابل فتاة النت على المباشر، ارتشف قهوته على شرفة غرفته، و هو يدندن لحنا أوروبيا، ثم هم بالمغادرة .
- صباح الخير يا أمي.
لم يأته الرد منها كالمعتاد، فأعاد تشغيل الأسطوانة :
- صباح الخير يا أمي
مرة أخرى لم يأته الرد، تقدم من باب غرفتها الذي كان منفرجا بزاوية حادة، ألق بنظره ناحية السرير، رآها مستلقية عليه، بدت من بعيد صغيرة الحجم، منكمشة على نفسها، فتح الباب و تقدم منها، ألقى نظره على وجهها، لم تكن هي، لم تكن أمه الجميلة الممتلئة الخدين، كانت امرأة أخرى، شاحبة الوجه، غائرة العينين، مضمحلة الجسد.
راعه منظرها، خرج يركض إلى شقيقته، وجدها تحضر لأمها وجبة الإفطار، أمسكها من يدها و صاح بوجهها : ما بها أمي ؟
فردت عليه دون أن تنظر في عينيه : أمك قتلها الانتظار.
جحظت عيناه، حتى شقيقته الجميلة الحسناء، انطفأ فيها كل شيء، التفت الدنيا من حوله، أحس و كأنه عاد لتوهه من رحلة خارج حدود انتمائه، ليجد كل شيء قد تبدل، تلعثم لسانه بسؤال متأخر: قتلها الانتظار ! ماذا تقصدين ؟
- فنطقت بكلمات هادئة، هدوء العاصفة بعد الدمار: متى كانت آخر مرة اقتربت من أمك مسافة خطوتين .......... متى كانت أخر مرة نظرت في عينيها مباشرة........ متى كانت آخر مرة قلت لها أنك تحبها ؟
أسئلة عدة و جواب واحد، منذ زمن بعيد.
- و لكن لماذا لم تخبريني يا شقيقتي الوحيدة ....... لماذا؟
- كانت هذه رغبة والدتك، قالت لي : دعيه يأتي إلي دون أن أناديه، دعي قلبي ينادي قلبه، و ليس صوتي من يناديه،
و كلما حاولـت التـدخل لألفت انتباهك لإهمالك لها، كانت تمنعني قائلة : كم أنت حمقاء يا ابنتي، الأم لا تحتاج إلى وساطة بينها و بين فلذة كبدها.
وقعت هذه الكلمات كالجمرات على قلبه، فأيقظته من سباته الطويل، فرت الدموع هاربة من عينيه، معلنة التمرد على قلب من حجر، سارع من جديد إلى أمه، دخل عليها، كمسافر يسابق الزمن ليرى حبيبا تركه خلفه منذ أمد بعيد، دخل الغرفة تتبعه شقيقته، اقترب منها و ناداها : أمي .
كانت هي الغائبة هذه المرة، فلطالما كان هو الغائب، و قد حان الوقت لتبادل الأدوار.
شعر بمرارة في حلقه، بدأ قلبه يستيقظ : أمي .... أرجوك استفيقي.
كررها و الألم يعصر قلبه: أرجوك أمي استفيقي ... أنا هنا عدت إليك.
ففتحت عيناها بحذر شديد، فلطالما ضحك عليها السراب، نظرت إليه :
هل هذا أنت يا حبيبي ؟
و أمعنت النظر إليه جيدا تتحقق إن كان حقيقة أو خيال، فقدت ثقتها بعيونها، تلك العيون التي لم تخذلها أيام السهر عليه هو و شقيقته، ثم ابتسمت إليه : كنت متأكدة أنك ستعود إلي دون أن أطلب منك.
ثم نظرت إلى أخته التي كانت تقف خلفه : أرأيت أيتها الحمقاء، لقد عاد إلى من تلقاء نفسه، لقد قلت لك إنه إبني و فلذة كبدي.
ارتمى في حضنها يبكي كما في أيام طفولته، يردد : سامحيني يا أمي، لأني نسيتك و انشغلت عنك في مشاغل الحياة التافهة .
أخدت تمرر يدـا النحيلة على شعره و هي تردد: و هل هناك ما يدعو لأسامحك عليه؟ فأنت حبيبي و سر نبضي و قطعة من قلبي.
و فجأة توقفت يدها لتنحدر ببطء شديد و لمسة حريرية على عنقه، لتستقر على حافة السرير.
.................إنتهى